قبل أن نلج في رحلة عميقة ذات مسارب متفرعة ومتشابكة ومتقاطعة لتتبع أصل الجرد / اللباس الليبي التقليدي/ , سنبدأ من الرداء الإغريقي , اذ يشير المؤرخ الإيطالي / غوليا ناردوتشي / في كتابه / برقة منذ الاستيطان الإغريقي _ الى أن اللباس الروماني منقول عن اللباس اليوناني القديم وأن اليونانيون قد نقلوا الجرد عن الليبيين القدامى , هذا الكلام يؤكده المؤرخ البريطاني / سميث كاج بيركت / في كتابه ممرات الحضارة _ , وقد أشار هيرودوت " ان ثوب ودرع أثينا قد نقلهما الإغريق عن النساء الليبيات " .
هذا الجرد الذي كان يرتديه الليبيون أيام الرومان مازال حاضرا وأستمر إلى الزمن الحالي , يقول / سوانسن كاوبر / في كتابه _ مرتفع ألهات الجمال _ ” الزي الطرابلسي الذي يلبسه جميع المسلمين المحليين في المدن أو في الأرياف هو ” البرقان ” أو الحولي , ولا نشاهد هدا اللباس البديع إلا بين تونس ومصر , وهو يمتاز بميزات خاصة به وحده " , ويعتبر المؤرخ كاوبر وهو أكثر الدين وصفوا الجرد بشكل دقيق , حيث يقول في نفس الكتاب ” فهو يتألف من جلباب أبيض طويل ملفوف بعناية حول الجسم , بحيث تظل اليد اليمنى حرة ويكون في الوسع رفع طرفه ليكون غطاء للرأس ” .
لقد كان البرقان _ أو الحولي وهى كلمة ليبية منتشرة في القسم الأكبر من المناطق الرومانية السابقة من أفريقيا , ويبدو من الملامح الثقافية السائدة في العصرين الإغريقي والروماني أن تكون إحدى أهم الصفات المحببة في الزوجة الصالحة والتي تستحق المديح حتى بعد وفاتها , أن تكون نساجة ماهرة , وقد عثر على نقش لاتيني يعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد , نقش كتب على قبر زوجة يمتدحها زوجها على إتقانها حرفة النسيج " أيها الغريب قف وإقراء إنني أقول لك قولا موجزا , هذا قبر غير جميل لامرأة جميلة أطلق عليها والدها اسم كلوديا , وقد أحبت بعلها من صميم قلبها , وأنجبت ابنين , تركت أحدهم حيا على الأرض ودفنت الأخر تحت الثرى , كان حديثها مرحا ومظهرها لائقا , كانت تدبر شؤون المنزل وتغزل الصوف , لقد قلت قولي فاذهب لحالك " , ورد هذا النص في كتاب المؤرخ / دونالد .ر. ددلي / .
نلتقط خيط المديح هذا في حق زوجة ماهرة في النسيج ونقلبه على المرآة الليبية التي وصفتها الباحثة / سعاد بوبرنوسة بانها / حارسة النسيج _ حارسة الثقافة _ , ولو أدركنا قيمة قدرة صمود الجرد الليبي الذي يحتفظ لنا على كنوزا ثقافية , سنظل نكيل بالمديح اللامتناهي للمرأة الليبية صانعة النسيج حتى زمننا الحالي , لقد كانت محقة عندما تركت المرأة الليبية الصناعات الأخرى وجلست تنسج خيوط الصوف تنظفها و تقلمها وتحيكها بين أصابعها في إبداع لا مثيل له و بأشكال مختلفة , بالتأكيد كانت تلك النقوش ولاتزال تحمل دلالات ثقافية هامة , وبالنظر إلى الزخارف التي تطرزها الماهرة الليبية على أطراف الجرد مثلا , سنجد قصصا وميثولوجيا وعادات وتقاليد , سنجد مخيالا رائعا في الخطوط والتقاطعات و هندسة الاشكال , الأمر ذاته سيقودنا إلى الأحلام والحياة والموت والدفن وحكايات علقت في رموز بسيطة وإشارات عابرة تحمل معاني كثيرة وتحتاج إلى تفاني في نفض الغبار عليها , لقد اختزلت المرأة الليبية ملامح ثقافية هامة أبعدتها عن أيدي العابثين فهربت بها لتسجلها على هذا الرداء الصوفي بلون الثلج أو بلون الفحم , هذه مفارقة أخرى غريبة عجيبة , اما الاسود أو الأبيض , النور أم الظلام , النهار أم الليل , الظل أم الشمس , بهذه الخيارات التي لا تحتمل الا اجابة واحدة حافظت النساجة الليبية على الكنز الجرد = الحولي و على طريقتها .
مازال الجرد يحمل دلالة اجتماعية هامة , فالمرأة الليبية لا تستمر في النسيج آذا ما حّل الظلام , وستعلق عملها اذا كانت هناك حالة وفاة لقريب أو جار , كما انه ليس لها أن تستطيع البدء في رفع أعمدة المسدة في أي يوم من أيام الأسبوع , فهناك بعض الأيام تصمت فيها دقات المسدة تكريما لها , حيث يرتبط الجرد أيضا بطقوس الدفن , اد تقطع أطراف الجرد ولا تدفن مع صاحبه ذلك لأنها تحمل دلالات روحية ودينية قديمة ظلت مرتبطة مع الجرد حتى يوم الناس هدا , ومع تنوع الرقم على أطراف الجرد , تظل الالهة تانيت ألهه الخصب عند الليبيين الحاضرة دائما في هذه التفاصيل .
* أبلوم
كانت الأردية الرومانية متأثره بالروح اليونانية التي تميل إلي الضيق أو الاتساع وتحتوي على زخارف , ولبس الرومان _ الهيماتيون _ بالإشارة الى الرداء الإغريقي الذي يغطي كتفا واحدة ويترك الأخرى عارية , هدا اللباس يحمل اسمين palaeum وpala وبلوم تعني العبأة النسائية , هنا نتوقف قليلا ونتسأل من أين جاء الاسم ابلوم , وهي كلمة ليبية امازيغية تشير إلى الأغطية الصوفية التي مازالت تنكب عليها حارسة النسيج والثقافة _, هل من المصادفة أن ينطبق هذا الاسم مع الاسم الليبي أبلوم ؟ , من الذي أخد عن الأخر ؟ .
*
هده العباءة سوف يتلفع بها الملوك في العهد الجمهوري والحكام والقناصل ,كما أغرمت الشباب في سنهم المبكر , ومازالت تحتفظ بالنقوش اللاتينية في روما , واذا ما كرّت المسبحة حباتها فان الإمبراطور الليبي سيبتيموس سيفيروس قد أهدى هذا اللباس لابنه كركلا عندما عينه قنصلا وشريكا له في الحكم , ونعثر هنا بالمصادفة على ان كركللا ليس اسم ابن سيبتيموس , واسمه الحقيقي / ماركوس أورليوس / الذي ينتصب قوسه في المدينة القديمة بالعاصمة الليبية طرابلس , و كركللا لقب يعني الذي يرتدي التوب اكيتلي .
*
كانت عباءة المواطن الروماني العادي كما المترف , تصنع من الصوف بلونه الطبيعي , وهناك عباءات أخرى تأخذ اللون الأسود أو اللون الرمادي والبني وتلبس في مناسبات الحداد , أكثر من ذلك يذهب المؤرخون إلى نقاط التشابه بين الرداء الليبي والروماني , وعند المقارنة نجد أنه هناك بعض النقاط المشتركة , الأمر يتعلق بالربطة التي يطلق عليها الليبيون _ التكامية _ أي الربطة المكروسة عند الصدر , كما توجد زخارف في أطراف الحولي الليبي , أما الرداء الروماني فله شريط بنفسجي اللون , ويشترك الرداءين في كونهما يصنعان من الصوف , تعددت أشكال الرداء الروماني وارتبط بالوسط الاجتماعي ما يضيف نقطة تشابه أخرى ظلت حاضرة في المجتمع الليبي حتى هده اللحظة , لكن السؤال ما يزال مشرعا في العيون , ما هو سر هذا التشابه ؟, من الذي أخد عن الأخر؟ , في كل الاحوال ستظل المرأة الليبية وحدها التي حافظت على هذا الوجه الثقافي المميز اذ يذكر التاريخ ان اليونان وعنهم الرومان قد أخدوا الجرد عن النساء الليبيات , ومهما تداخلت وتقاطعت بدايات صناعة الجرد , فانه من الواضح ان المواطنون في الدولة الرومانية قد تعاطوا مع الجرد بشكل أو بأخر , على ان المرأة الليبية أكسبته صفة الصناعة المحلية بامتياز و مند زمن غابر في القدم .
*
لقد تركت المرأة الليبية بقية الصناعات والحرف للرجل , وذهبت هي تكسي زوجها وأبنائها وتنسج الأغطية التي تلزم العائلة أو تبدأ في التخطيط على الكليم , وعلى امتداد تلك الخيوط الصوفية باختلاف احجامها تتشابك أوجه الثقافة التي تندّس بين أقلام الصوف , لم يكن النسيج عند المرأة الليبية مجرد حاجة للغطاء والكساء , لقد تجاوزت هذه الرغبة او الحاجة الى مهمة أخرى سوف نتعرف على قيمتها عندما نفك شيفرة الخطوط والرسومات والوشم والكتابة الليبية القديمة , بمعني آخر لقد أحالت المرآة الليبية مساحة نسيجها إلى لوحات تحمل دلالات تاريخية , بل تحمل هما ثقافيا بكل ما تعنيه الكلمة .
# جزء من بحثي حول الجرد الليبي ( الحولي ) . محمد ربيع